بعد أكثر من 13 عامًا على بقائها منسية في أحد الأدراج، كشفت أحفورة سلحفاة بحرية عُثر عليها في شمال سوريا عن مفاجأة علمية غير متوقعة، إذ تبين أنها تعود إلى نوع جديد تمامًا من السلاحف البحرية المنقرضة، ما يغير فهم العلماء لتطور هذه الكائنات وانتشارها عبر العصور الجيولوجية.
الأحفورة النادرة اكتُشفت عام 2010 عقب انفجار وقع في أحد المحاجر قرب بلدة الظريفة التابعة لمدينة عفرين شمالي سوريا، ثم نُقلت إلى مكاتب المديرية العامة للجيولوجيا والثروة المعدنية في حلب حيث بقيت محفوظة لسنوات طويلة. لكن إعادة دراستها مؤخرًا من قبل فريق دولي من الباحثين قادت إلى نتائج علمية بارزة، إذ أكد العلماء أن هذه السلحفاة تمثل نوعًا جديدًا أُطلق عليه اسم Syriemys lelunensis، وهو أول نوع من الفقاريات الأحفورية يُوصف رسميًا في سوريا.
الأحفورة تتكون من درع طوله 53 سنتيمترًا وعرضه 44 سنتيمترًا، مع قالب داخلي محفوظ بدقة عالية، إلى جانب أجزاء من الصدفة البطنية وبعض عظام الحوض والأطراف الخلفية. ويُظهر هذا الاكتشاف أن النوع المكتشف ينتمي إلى فصيلة Stereogenyini المنقرضة، وهي سلاحف متكيفة مع الحياة البحرية، بخلاف أقاربها من السلاحف جانبية الرقبة المعاصرة التي تعيش اليوم في المياه العذبة.
الأهمية العلمية للاكتشاف تكمن في أنه أعاد ترتيب التسلسل الزمني لتطور هذه الفصيلة، إذ أظهر أنها عاشت قبل أكثر من عشرة ملايين سنة مما كان يُعتقد سابقًا، وبذلك أسهم في إعادة رسم صورة تاريخ السلاحف البحرية وتوسعها الجغرافي.
وقد استند العلماء في تحديد عمر الأحفورة إلى تحليل كائنات دقيقة بحرية تُعرف باسم الفورامينيفيرا، لتُثبت النتائج أن السلحفاة عاشت في العصر الإيوسين المبكر، قبل نحو خمسين مليون عام، وهي فترة اتسمت بارتفاع درجات الحرارة واتساع البحار الضحلة، حيث كانت الأراضي السورية الحالية جزءًا من محيط تيثيس الضخم الذي وفر بيئة مثالية لعيش هذه الزواحف البحرية.
الدكتور غابرييل س. فيريرا من مركز سينكنبرغ للأبحاث في مدينة توبنغن الألمانية أوضح أن هذا الاكتشاف “يضيف موقعًا جغرافيًا جديدًا لتوزيع هذه السلاحف المنقرضة”، مشيرًا إلى أن أحافير مشابهة سبق العثور عليها في الأمريكتين والبحر الكاريبي وأفريقيا وشرق آسيا، ليأتي الاكتشاف السوري مؤكدًا أن هذا النوع كان أوسع انتشارًا مما كان يُتصور.
ورغم الظروف المعقدة التي تعيشها سوريا منذ سنوات، برز هذا الاكتشاف كدليل على أن البحث العلمي ما زال ممكنًا ومثمرًا في البلاد. البروفيسور ماكس لانجر من جامعة ساو باولو شدد على أن “الحديث عن الأحافير في ظل الأزمات قد يبدو بعيدًا عن الواقع، لكنه يكشف الإمكانات العلمية الكامنة في سوريا ويؤكد أن العلم ما يزال حيًّا فيها”.
ويُعتبر هذا الإنجاز العلمي خطوة أولى ضمن مشروع دولي جديد تحت عنوان “استعادة الزمن الضائع في سوريا”، وهو مبادرة تسعى إلى توثيق التراث الجيولوجي السوري ودراسة ما تختزنه أراضيه من ثروات أحفورية، رغم التحديات الميدانية التي تعيق عمل الباحثين.
ويأمل العلماء أن يسهم هذا المشروع في إعادة إحياء الدراسات الجيولوجية والبيئية في البلاد، وفتح الباب أمام اكتشافات أخرى قد تغيّر الكثير من المفاهيم حول تاريخ المنطقة الطبيعي وتطور الكائنات الحية فيها.
بهذا الاكتشاف، تضع سوريا اسمها من جديد على خريطة الاكتشافات الأحفورية العالمية، ليس فقط من خلال توثيق نوع جديد من السلاحف البحرية المنقرضة، بل عبر تقديم أدلة جديدة تساعد على فهم أعمق لتاريخ المحيطات والحياة البحرية قبل ملايين السنين، في رسالة تؤكد أن العلم قادر على الاستمرار حتى في أصعب الظروف.