إذا تحقّق تحالف عسكري حقيقي بين الجيش السوري الجديد والقوات المسلحة التركية، فستتغيّر خرائط القوة في الشرق الأوسط بطرق دراماتيكية. هذا السيناريو الافتراضي ليس مجرد اندماج لقوات مسلحة، بل هو اندماج لخبرات عسكرية وصناعات دفاعية وجغرافيا استراتيجية وموارد اقتصادية مزيج قادر نظرياً على تحويل دولتيْن مجاورتين إلى محور قوة إقليمي حقيقي، مع انعكاسات سياسية وأمنية ودبلوماسية بعيدة المدى.
سوريا موقع جيوسياسي وموارد تؤهلها لتكون لاعباً محورياً
تقع سوريا عند تقاطع البحر الأبيض المتوسط وبلاد الشام والعراق وتركيا، ما يمنحها قيمة جغرافية عالية؛ موانئها على الساحل السوري تفتح نافذة على المتوسط، بينما تربطها أراضيها بممرات برية حيوية تمتد شرقاً إلى بلاد الرافدين وغرباً إلى المتوسط وشمالاً إلى الأناضول. هذه الموقعة تجعلها نقطة محورية في أي توازن إقليمي.
ومن ناحية الموارد، لدى سوريا احتياطات نفطية ومعرفية صناعية والبنى التحتية الأولية التي، لو أعيد تأهيلها وتطويرها، قد تساهم في اقتصاد قوي يدعم قدرة صناعية وعسكرية. تظلّ الاحتياطيات النفطية المثبتة لسوريا مهمة تقدر بمليارات البراميل وفق مصادر دولية وهو عنصر أساسي لتمويل إعادة الإعمار وتحفيز قطاع الطاقة والصناعة. إعادة تصدير النفط واستعادة الإنتاج يمكن أن يغيرا قواعد التمويل الوطني والاعتماد الخارجي.
تركيا قوة عسكرية وصناعية ذات بنية دفاعية متنامية
تركيا اليوم تُعتبر من بين القوى العسكرية الكبيرة في المنطقة، مع قطاع دفاعي محلي متطور يصدّر أنظمة أرضية وجوية وجنرا مسؤولة عن طائرات مسيّرة ودروع ومعدات بحرية، إضافة إلى ميزانيات دفاعية مرتفعة مما يعزز قدرتها العملانية والإنتاجية. تطور الصناعة الدفاعية التركية وارتفاع الإنفاق العسكري يجعلانها شريكًا قويًا يقدم خبرة تقنية وتدريباً وتصنيعاً متقدماً.
ما الذي سيتغير عسكرياً وتقنياً؟
أولاً: دمج الخبرات الميدانية والتأهيلية. الجيش التركي يمتلك خبرة قتالية حديثة، قدرة لوجستية واسعة، وقطاع تدريب مؤسسي قادر على إكساب وحدات شريكة مستويات احترافية عالية. إذا انخرطت قوات سورية منظماً في برامج تدريب مشتركة وتعليم تكتيكات وإدارة سلسلة الإمداد، فسيرتفع مستوى الجاهزية والقدرة التشغيلية للجيش السوري بشكل كبير.
ثانياً: قفزة في التصنيع العسكري. التعاون مع تركيا يمكن أن يؤمن نقلة في إتقان إنتاج أنظمة متطورة من الطائرات المسيرة وأنظمة القيادة والسيطرة إلى المركبات المدرعة وأنظمة الدفاع الجوي والشاطئية والغواصات الصغيرة. تركيا لديها قدرة تصنيعية متنامية وتكنولوجيا يمكن نقلها أو تصنيعها مشتركاً، ما يجعل الجيش السوري أقل اعتماداً على الاستيراد ويؤسّس لقطاع دفاعي وطني قادر على تلبية احتياجاته الاستراتيجية.
ثالثاً: قدرة بحرية وأمن ساحلي معززة. أي شراكة يمكن أن تثمر عن برامج مشتركة لتحديث الموانئ، تطوير قوات بحرية وساحلية، وتأمين خطوط الملاحة في شرق المتوسط، ما يمنح هذا التحالف قدرة على حماية المصالح الاقتصادية وتأمين سلاسل التوريد. وجود قواعد لوجستية بحرية مشتركة يعزز من قدرة التحالف على التحكم البحري والإقليمي.
الاقتصاد والموارد.. كيف يصبح التحالف قادراً على الاكتفاء؟
الموارد السورية نفطياً وصناعياً وبشرياً عندما تُدار وتُستغل بالشكل الصحيح وبشراكة تكنولوجية مع تركيا، قد تؤسس قاعدة صناعية متكاملة. النفط يمكن أن يوفّر أملاً في تمويل إعادة الإعمار وبناء مرافق صناعية وثكنات ومصانع للسلاح، بينما تؤمن تركيا تجربة في الصناعات الثقيلة وتصنيع قطع الطائرات، والطائرات المسيرة، وأنظمة الدفاع الإلكتروني. هذا التكامل قد يؤدي إلى ظهور سلسلة توريد محلية تعيد التوازن للاقتصاد وتحقق درجة من الاكتفاء الذاتي للدولة المسلحة المشتركة.
البعد الاستراتيجي: تحويل توازن القوى في الشرق الأوسط
تحالف عسكري-صناعي سوري-تركي سيخلق لاعباً إقليمياً يمتلك عناصر قوة متكاملة: جيشاً منظماً، صناعة دفاعية متزايدة، موارد تمويل محلية، وموقعاً استراتيجياً على البحر المتوسط والبرّ. هذا التحالف قد يضغط على نفوذ قوى إقليمية ودولية في المنطقة، ويعيد رسم خطوط النفوذ، خصوصاً إذا ما تطورت قدرات الاعتراض الجوي والبحري والصاروخية، إضافة إلى إمكانات الحرب الإلكترونية والاستطلاع.
سياسات الرد والرفض: من هم الخصوم المحتملون؟
من الطبيعي أن يواجه مثل هذا التكتل مقاومة من عدة جهات: دول غربية ترى في توحّد قوة إقليمية مستقلة تهديداً لمصالحها، وإسرائيل التي تراقب بحذر أي تغيير يجعل من المنطقة أكثر توازناً أو يقلّل من تفوقها الإقليمي، بالإضافة إلى مجموعات إقليمية ودول إقليمية أخرى قد تشعر بتراجع نفوذها. هذه الجهات قد تتحرك دبلوماسياً أو اقتصادية أو عبر التحالف مع قوى محلية لعرقلة تكامل الإنشاء العسكري-الصناعي. ولا بد أن نذكر أن الخوف من ظهور دولة إقليمية ذات سيادة قوية هو عامل سياسي جيوستراتيجي حقيقي يدفع كثيراً من اللاعبين للانخراط في سياسات التفرقة أو العزلة.
العقبات العملية أمام التحالف
- السياسة الداخلية والشرعية: لا يكفي توافق عسكري ليصنع تحالفاً مستداماً؛ يتطلب الأمر توافقاً سياسياً ومؤسساتياً بين القيادات، وانسيابية في التفاهمات على الحدود والسيادة والتعاون الأمني.
- الاعتماد الخارجي والعقوبات: البنى التحتية السورية متضررة، والعلاقات الدولية مع بعض الدول قد تعوق إعادة الإعمار والتحركات الاقتصادية، فضلاً عن القيود المتعلقة بالعقوبات أو الاعتماد على سلاسل توريد دولية.
- الانقسام الإقليمي والداخلية: التوترات الإثنية والمذهبية، وقوى محلية منافسة داخل سوريا وخارجها، قد تعقّد جهود الدمج العسكري وتعيق إعادة بناء قاعدة صناعية متماسكة.
- مواجهة ردود فعل دولية: خطوات تكنولوجية وصناعية حساسة قد تثير مخاوف وتدابير من دول تعتبر هذه القدرات تهديداً لأمنها، ما يفرض على أي تحالف وضع استراتيجية دبلوماسية متوازنة.
الفرص: لماذا يسعى الطرفان نظرياً للتحالف
المنفعة المتبادلة هي أساس أي تحالف ناجح. تركيا قد تكسب عمقاً استراتيجياً، موارد طاقة، وموقعاً بحرياً متميزاً، بينما سوريا تكسب إعادة تأهيل للبنى التحتية، تدريباً عالياً، ونقلة صناعية تؤهلها للاعتماد الذاتي تدريجياً. تحالف كهذا يمكن أن يدفع مشاريع مشتركة للاقتصاد، النقل، الطاقة، والتصنيع، ما يُحسن ظروف الأمن الداخلي والاستقرار السياسي في البلدين.
كيف يمكن أن يبدو الشرق الأوسط مع تحالف سوري تركي
لو تحقق هذا التحالف وتجاوز العقبات، فسنشهد: تعزيزاً للقوة الردعية في المنطقة، شبكات لوجستية ودفاعية بحرية متقدمة في شرق المتوسط، سوقاً صناعية دفاعية مشتركة تنافس مقدرات قائمة، وربما إعادة رسم توازنات التحالفات الإقليمية. هذا لا يعني بالضرورة مواجهة عسكرية مباشرة مع قوى أخرى، بل قد يدفع إلى توازنات جديدة تقوم على المصالح الاقتصادية والتعاون الأمني.
واقعية ومتوازنة
التحالف بين الجيش السوري الجديد والقوات التركية يمتلك إمكانات تحويلية: جغرافية سوريا، مواردها الطاقية، وصناعة تركيا الدفاعية تشكل معاً قاعدة يمكن أن تُبنى عليها قوة إقليمية. لكن الطريق إلى هذا السيناريو محاط بعقبات سياسية ودولية واقتصادية وقانونية كبيرة. لتحقيق فائدة مستدامة لأي شراكة من هذا النوع، لا بد من توافق سياسي موسع، استراتيجية اقتصادية لاعادة الإعمار، إدارة دبلوماسية ذكية لتخفيف المخاوف الدولية، وبرنامج تقني طويل الأمد لبناء صناعة دفاعية وطنية.
في النهاية، يبقى السؤال الأكبر: هل ستُقدّر الأطراف المعنية مصلحة الاستقرار والتعاون على حساب السلوكيات التي تفكك البلدان وتُضعف سيادتها؟ الإجابة عن هذا السؤال هي التي ستحدد إن كان تحالف من هذا النوع يبقى في خانة الخيال الاستراتيجي أم يتحول إلى واقع جيوسياسي يغير وجه الشرق الأوسط.