في خطوة وُصفت بالتاريخية، شهد قصر الشعب بدمشق توقيع مذكرة تفاهم بين وزارة الإعلام السورية وشركة “المها الدولية” لإطلاق مشروع “بوابة دمشق”؛ أول مدينة متكاملة للإنتاج الإعلامي والسينمائي والسياحي في سوريا، وذلك برعاية السيد الرئيس أحمد الشرع، وحضور عدد من الشخصيات الرسمية والمستثمرين العرب والدوليين.
![]() |
مدينة بوابة دمشق |
يمثل المشروع الذي تقدر تكلفته بمليار ونصف المليار دولار أمريكي على مساحة شاسعة تمتد إلى قرابة مليوني متر مربع، نقطة تحول بارزة في مسيرة الإعلام السوري، ليس فقط على صعيد التطوير الفني والتقني، وإنما أيضًا من حيث البُعد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي لهذا الاستثمار الضخم. وتعد هذه المبادرة تجسيداً عملياً لرؤية سوريا الجديدة التي تتطلع إلى الانفتاح المدروس والاستثمار المنتج في قطاعات تعتبر من الأعمدة الأساسية لأي نهضة وطنية مستدامة.
رعاية رئاسية وتوجه استراتيجي
في كلمته خلال مراسم التوقيع، عبّر وزير الإعلام الدكتور حمزة المصطفى عن فخره بانطلاق هذا المشروع تحت رعاية مباشرة من فخامة الرئيس أحمد الشرع، مؤكداً أن المشروع لا يمثل مجرد تعاون بين وزارة وشركة، بل يشكل توجهًا استراتيجيًا للدولة نحو إعادة تموضع سوريا كمركز إقليمي مهم في مجالات الإعلام والثقافة والإنتاج الفني. وأضاف المصطفى: “نحن لا نبني فقط استديوهات، بل نبني سرديتنا الوطنية وهويتنا الثقافية بصورة حديثة ومتطورة، تنطلق من أرضنا وتتحدث باسم أبنائنا”.
واعتبر الوزير أن توقيع مذكرة التفاهم هو جزء من سلسلة تحركات حكومية تهدف إلى جذب الاستثمارات النوعية التي تحمل قيمة مضافة للاقتصاد الوطني، وخاصة في القطاعات الحيوية التي تعزز صورة البلاد وتدعم التماسك الاجتماعي. وأكد أن المشروع يندرج ضمن رؤية متكاملة لإعادة تأسيس الإعلام السوري ليكون شريكاً في التنمية، لا مجرد ناقل لها.
مكونات المشروع ومميزاته
المشروع، الذي سيُقام في منطقتين متداخلتين من محافظتي دمشق وريفها، سيضم استديوهات داخلية وخارجية بتجهيزات عصرية متكاملة. وتُحاكي هذه الاستديوهات الطراز المعماري التقليدي للمدن العربية والإسلامية، ما يمنحها طابعًا أصيلاً يلائم طبيعة الأعمال الدرامية والتاريخية.
كما سيشتمل المشروع على مراكز تدريب وتأهيل مخصصة لإعداد كوادر محترفة في مختلف المجالات الإعلامية، بالإضافة إلى مرافق تشغيلية ومنشآت سياحية وترفيهية. وتهدف هذه المرافق إلى خلق بيئة حاضنة للإبداع تتلاقى فيها التقنيات الحديثة مع الطاقات البشرية، مما يجعل “بوابة دمشق” مشروعًا متكاملاً لا يقتصر على الإنتاج الفني، بل يمتد ليشمل قطاعات الخدمات والضيافة والتعليم المهني.
فرص عمل واستقرار اجتماعي
واحدة من أبرز النقاط التي ركز عليها وزير الإعلام في كلمته كانت الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية للمشروع، موضحًا أن “بوابة دمشق” ستوفر ما يزيد عن 13 ألف فرصة عمل، منها 4 آلاف فرصة دائمة و9 آلاف موسمية، موزعة على مختلف الاختصاصات المرتبطة بالإعلام، والسياحة، والخدمات.
وأكد المصطفى أن هذه الأرقام لا تعني فقط تقليص نسب البطالة، بل تمثل رافعة حقيقية للاستقرار الاجتماعي، إذ تتيح لآلاف الشباب السوريين الدخول في مسارات مهنية مستدامة، وتفتح المجال أمام تطوير المهارات الفنية والإدارية والتقنية. وفي هذا الإطار، نوّه الوزير إلى أن المشروع يمثل تطبيقًا عمليًا لتوجيهات الرئيس الشرع الذي أعلن سابقًا “الحرب على الفقر” ووجّه بوصلة الحكومة نحو خدمة المواطن أولاً.
البعد الثقافي والحضاري
من جهته، أشار محمد العنزي، رئيس مجلس إدارة شركة المها الدولية، إلى أن مشروع “بوابة دمشق” ليس مجرد استثمار عقاري أو إعلامي تقليدي، بل مشروع حضاري يحمل في جوهره رسالة ثقافية وإنسانية. وقال العنزي في كلمته: “نحن لا نأتي بأموال فقط، بل نأتي بحلم، نأتي برؤية تُكرّس مكانة سوريا كمنارة للإبداع في محيطها العربي والدولي”.
واستعرض العنزي في خطابه الإرث الحضاري العريق لسوريا، مذكّرًا بأن أول أبجدية عرفها الإنسان وُلدت على أرضها، ومنها انطلقت أعظم الحضارات التي أسست مفاهيم الثقافة والفكر والمعرفة. وأضاف: “من دمشق الفيحاء، أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ، نعيد اليوم إطلاق مشروع حضاري جديد، يتخذ من الإعلام والثقافة منبرًا لنقل صوت سوريا إلى العالم”.
وشدد رئيس مجلس إدارة الشركة على أن المشروع سيكون حاضنة للإبداع ومنصة تنطلق منها رسالة سوريا الجديدة، وأنه مفتوح لكل من يؤمن بأن الفن رسالة، والثقافة قوة، وأن الاستثمار في الإنسان هو أعظم استثمار.
مدينة بوابة دمشق منصة للقنوات والإنتاج العالمي
خلال المؤتمر الصحفي الذي أعقب توقيع المذكرة، أوضح الوزير المصطفى أن مدينة “بوابة دمشق” ستشكل بنية تحتية أساسية لأي قناة إعلامية محلية أو عربية أو أجنبية ترغب في العمل ضمن سوريا الجديدة. وأضاف أن هذه المدينة الإعلامية تمثل نقلة نوعية ستساعد الدراما السورية على تحقيق قفزة في المستوى، لا سيما أن الوزارة تخطط لإنتاج 25 عملاً درامياً خلال العام الجاري كجزء من حملة لإعادة إحياء الإنتاج الفني المحلي.
وأشار المصطفى إلى أن الحكومة السورية، من خلال وزارة الإعلام، ستكون شريكًا فعّالًا وداعمًا حقيقيًا لكل المستثمرين السوريين والعرب والأجانب الذين يسعون للإسهام في نهضة البلاد، مؤكدًا أن مشروع “بوابة دمشق” هو أحد النماذج الحية على هذه السياسة الداعمة للقطاع الخاص والمبادرات الخلاقة.
تجهيزات عالمية وجدول زمني مدروس
من جهته، أوضح محمد العنزي أن تنفيذ المشروع سيتم على مراحل مدروسة، تستغرق ما بين 5 إلى 7 سنوات، على أن تُدار عمليات التنفيذ والتجهيزات التقنية من قبل نخبة من الشركات العالمية المتخصصة في بناء المدن الإعلامية. وقال العنزي إن الهدف هو الوصول إلى مستوى يجعل من “بوابة دمشق” وجهة إنتاج عالمية، قادرة على جذب شركات من أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية، وليس فقط من دول المنطقة.
ولفت إلى أن البنية التحتية للمشروع ستكون هجينة بين العقار والخدمة الإعلامية، بحيث تدمج بين الحرفية في العمل الفني والحداثة في التصميم والخدمات، مما يضمن استدامة النشاط وتحقيق العائد الاستثماري المرجو.
شراكة استراتيجية تعزز البيئة الاستثمارية
يمثل توقيع مذكرة التفاهم بين وزارة الإعلام وشركة المها الدولية أكثر من مجرد إعلان نوايا، فهو يعكس إدراك الطرفين لأهمية تكوين شراكات استراتيجية قادرة على إحداث فرق ملموس في الاقتصاد السوري، وفي صناعة الإعلام تحديدًا. إذ تفتح هذه الشراكة الباب أمام استثمارات نوعية قادرة على استقطاب الكفاءات السورية داخل البلاد وخارجها، وتعيد ضخ الطاقات البشرية في مسارات تنموية هادفة.
وفي هذا السياق، شدد وزير الإعلام الدكتور حمزة المصطفى على أن الوزارة لن تكتفي بدور المراقب أو الراعي، بل ستكون طرفًا فاعلًا في ضمان تنفيذ المشروع وفق أعلى المعايير، مع التزام شفاف بتقديم التسهيلات المطلوبة، والرقابة النوعية، والإشراف الفني لضمان تكامل البنية الإعلامية والتقنية التي سيتم إنشاؤها.
كما أشار الوزير إلى أن مشروع “بوابة دمشق” سيكون بمثابة “نقطة الجذب” التي ستعيد الحيوية لقطاع الإنتاج المحلي، وتحفز مؤسسات الإعلام السورية الرسمية والخاصة على تحديث أدواتها، وتوسيع دوائر التعاون مع الشركاء العرب والدوليين، من منطلق الانفتاح المدروس الذي تتبناه سوريا الجديدة.
السياحة والإعلام تلاقي القوة الناعمة
من أبرز ما يميز “بوابة دمشق” هو تداخل وظيفتها بين القطاعات: فهي ليست مدينة إعلامية فقط، بل هي أيضًا مركز سياحي متكامل. وتكمن أهمية هذا التلاقي في كونه يضخ الحيوية في ما يُعرف بـ “القوة الناعمة” لسوريا، عبر صناعة السياحة الثقافية والدرامية، وهي من أنجح القطاعات التي استفادت منها دول مثل تركيا والهند وكوريا الجنوبية في العقود الأخيرة.
وبهذا المعنى، لا يتوقف المشروع عند حدود الاستديوهات أو مواقع التصوير، بل يتعداها ليخلق فضاءات سياحية وترفيهية متكاملة. إذ يتوقع أن يتضمن المشروع فنادق، ومطاعم، وقاعات للمؤتمرات والعروض، وحدائق ومراكز ترفيهية تناسب جميع الفئات. وهذا يُمكّن الزائر أو السائح أو الضيف من خوض تجربة متكاملة، ثقافية وترفيهية ومهنية، داخل المدينة الإعلامية.
كما يتيح هذا النموذج الهجين فرصًا استثمارية إضافية، من خلال تشجيع الشركات السياحية، والمستثمرين في قطاع الضيافة، على الدخول في شراكات داخل المشروع، وبالتالي تتوسع دائرة الفائدة لتشمل قطاعات إضافية في الاقتصاد الوطني.
رسالة حضارية إلى الخارج
منذ اندلاع الأزمة السورية قبل أكثر من عقد، تعرضت صورة البلاد إلى تشويه متعمد في الكثير من وسائل الإعلام العالمية. واليوم، يُشكّل مشروع “بوابة دمشق” محاولة ذكية وفعّالة لإعادة تقديم سوريا إلى الخارج من خلال أدواتها الذاتية، ومن أرضها، ومن أبنائها.
وبحسب وزير الإعلام، فإن أحد أهم أهداف المشروع هو “استعادة سرديتنا الوطنية”، أي أن تكون صورة سوريا في الإعلام الخارجي نابعة من الداخل، لا مفروضة من الخارج. وهذا يتطلب إمكانيات فنية وبشرية كبيرة، لكن الأهم أنه يتطلب “إرادة سياسية وثقافية”، وهي متوفرة اليوم بقوة، كما قال المصطفى.
وفي هذا السياق، أشار محمد العنزي إلى أن مدينة بوابة دمشق ستكون وجهة لكل مؤسسة إعلامية تؤمن بأن الإبداع لا يعرف الحدود، وأن سوريا، بتاريخها وثقافتها، تستحق أن تكون حاضرة بقوة في خريطة الإنتاج الإعلامي العالمي. وأكد أن الشركة تسعى إلى جذب منصات بث عالمية، وقنوات تلفزيونية دولية، ومؤسسات سينمائية رائدة، من أجل إقامة شراكات إنتاج وتبادل خبرات.
دعم صناعة الدراما إنتاج 25 عملًا في عام واحد
في سياق متصل، أعلن وزير الإعلام أن الخطة الحالية للوزارة تشمل إنتاج 25 عملًا دراميًا في عام واحد، وهو رقم طموح بالنظر إلى الأوضاع الاقتصادية واللوجستية التي عانت منها البلاد في السنوات الماضية. لكن المصطفى أكد أن الوزارة تراهن على الطاقات المحلية، وعلى وجود البيئة الداعمة للإبداع، خاصة مع انطلاق “بوابة دمشق”.
وأضاف أن إنتاج هذا العدد من الأعمال الفنية سيحقق هدفين متوازيين: الأول هو دعم قطاع الدراما السورية العريق وإعادة حضوره القوي في المحيط العربي، والثاني هو تشجيع شركات الإنتاج العربية والأجنبية على العودة إلى سوريا، أو على الأقل التعاون معها، سواء بتصوير الأعمال أو بالمشاركة الفنية والإخراجية.
هذا التوجه يُعيد إلى الأذهان المكانة التي كانت تحتلها الدراما السورية في مطلع الألفية، حين كانت المسلسلات السورية تتصدر المشهد في كل الدول العربية، وتُعرض على أوسع الشاشات الخليجية واللبنانية والمصرية، وتحظى بجمهور عريض من المحيط إلى الخليج.
سوريا الجديدة رؤية نحو المستقبل
كل ما سبق من تفاصيل ومكونات يؤكد أن سوريا تتبنى اليوم استراتيجية واقعية وطموحة في آنٍ معًا، تسعى إلى استعادة موقعها على الساحة الإعلامية والثقافية والسياحية، ولكن بطريقة مدروسة ترتكز على الاستثمار الجاد والبنية التحتية الحديثة، والشراكة مع القطاع الخاص، والانفتاح على التجارب العالمية.
“سوريا الجديدة”، كما وصفها الوزير المصطفى، ليست مجرد شعار، بل مسار مؤسساتي يتجلى في مشاريع مثل “بوابة دمشق”، التي تجمع بين الطموح التنموي، والهوية الثقافية، والمردود الاقتصادي والاجتماعي. وهو ما يجعل من هذا المشروع رافعة حقيقية في مسيرة التعافي الوطني الشامل.
ورغم التحديات، فإن هذا النموذج القائم على الربط بين الإعلام، والثقافة، والسياحة، والتعليم، يثبت أن سوريا تملك كل المقومات اللازمة للعودة إلى دائرة الفعل الإقليمي والدولي، لا كدولة تتلقى المساعدات، بل كدولة تساهم في إنتاج المعرفة، ونشر الرسائل الثقافية، وتعزيز الحوار الحضاري بين الأمم.
دعوة مفتوحة للمستثمرين العرب والدوليين
من النقاط اللافتة التي أثارها محمد العنزي في المؤتمر الصحفي، كانت دعوته العلنية والمباشرة إلى المستثمرين في الخليج العربي، وفي العالم، إلى المبادرة والاستثمار في سوريا، مستشهدًا بما شهده بنفسه من تعاون رسمي وترحيب حكومي حقيقي.
وأكد أن سوريا توفر اليوم تسهيلات نوعية للمستثمرين، سواء على مستوى الإجراءات الإدارية أو الضمانات القانونية أو الدعم اللوجستي. وأشار إلى أن وجود شريك استراتيجي مثل وزارة الإعلام يضفي على أي مشروع طابع الثقة والاستقرار والاستمرارية.
وقال العنزي: “نحن لا نراهن على العائد المادي فقط، بل نراهن على الإنسان السوري، وعلى طاقاته، وعلى رغبة الدولة الحقيقية في النهوض. وهذا ما يجعلنا نؤمن بأن مشروع بوابة دمشق سيكون علامة فارقة في تاريخ الإعلام العربي الحديث”.