رحل عن عالمنا صباح السبت الفنان اللبناني زياد الرحباني عن عمر ناهز 69 عاماً، بعد مسيرة طويلة ومليئة بالإبداع والتجديد والجدل. وبرحيله، تطوي الساحة الفنية العربية صفحة فريدة من نوعها، امتدت لأكثر من أربعة عقود، مزج فيها بين الفن والموقف، وبين السخرية والواقعية.
زياد، الذي نشأ في كنف عائلة فنية عريقة، شكّل منذ بداياته حالة استثنائية في المسرح والموسيقى العربية. فمنذ أول ألحانه لوالدته، الفنانة فيروز، عام 1973، حين كان لا يزال في السابعة عشرة من عمره، أظهر قدرة لافتة على التعبير الموسيقي بعيداً عن النمط السائد، مقدماً لوناً فنياً خاصاً به.
تميّز زياد بأسلوب ناقد وجريء، لم يتردد في مساءلة الواقع اللبناني بكل تعقيداته السياسية والطائفية والاجتماعية. أعماله المسرحية، التي شكلت علامات فارقة في الذاكرة الثقافية، عكست هموم المواطن العادي، وطرحت أسئلة حول العدالة، والانتماء، وعبثية الحروب والانقسامات.
على مدى سنوات، لم تكن مسرحيات زياد مجرد عروض فنية، بل نصوص تحمل موقفاً، وموسيقى تحمل فلسفة، وشخصيات تعكس تناقضات المجتمع اللبناني بكل شفافية. أما موسيقاه، فكانت مزيجًا متقنًا من التراث والتجديد، تأثرت بالمدرسة الرحبانية، لكنها انطلقت منها نحو فضاءات أكثر حرية وتنوعًا.
ورغم مواقفه الجدلية أحياناً، حافظ زياد على مكانة راسخة لدى جمهور واسع داخل لبنان وخارجه، إذ وجد فيه كثيرون صوتاً يعبّر عن مشاعرهم ويترجم قلقهم الوجودي بأسلوب ساخر وواقعي في آنٍ معاً.
في السنوات الأخيرة، ابتعد زياد عن الساحة الفنية لأسباب صحية، بعدما أثّر تراجع حالته الجسدية على نشاطه الإبداعي، إلا أن إرثه بقي حاضرًا في وجدان محبيه، من خلال المسرحيات والأغاني والألحان والمقابلات التي شكّلت مرآة لمرحلة كاملة من تاريخ لبنان.
وُلد زياد الرحباني في بيروت مطلع عام 1956، وورث الفن عن والده الموسيقار عاصي الرحباني، ووالدته فيروز. جمع بين التأليف والتلحين والكتابة المسرحية، وترك بصمته الخاصة في كل حقل خاضه. وقدم خلال مشواره عددًا كبيرًا من الأغاني الشهيرة بصوت فيروز، منها “سألوني الناس”، “البوسطة”، “سلملي عليه”، و”عندي ثقة فيك”.
في حياته الشخصية، عاش زياد تجارب عاطفية وإشكالات علنية، منها زواجه وانفصاله، وعلاقته الطويلة بالفنانة كارمن لبس، لكنه بقي دائمًا مرتبطًا بجمهوره، وحرًا في اختياراته، يرفض التصنيف والاحتواء.
رحيل زياد ليس فقط خسارة لفنان مبدع، بل غياب لصوت نادر في المشهد العربي، استطاع أن يخلق لغته الخاصة، ويُغني الوعي الجمعي بجملة موسيقية، أو فكرة عابرة في مسرحية، أو حتى بجملة ساخرة تُضحك وتُبكي في آنٍ معاً.
بغيابه، يودع لبنان أحد أبرز أبنائه، وتفقد الثقافة العربية رجلاً رفض أن يكون عادياً، وأصرّ على أن يقول ما يؤمن به حتى النهاية.
موقع سرت الإخبارية ينعي الراحل الكبير بكل احترام وتقدير، ويحيي تاريخه الذي سيبقى حياً في الذاكرة، وفي كل بيت عرف معنى أن يكون الفن موقفًا، وأن تكون الكلمة سلاحًا نبيلاً في وجه القبح والتقليد.