سوريا بعد الحرب: كيف يمكن للمجتمع الدولي دعم استقرار المنطقة؟

بعد أكثر من عقد من النزاع المسلح، بات من الضروري التفكير بشكل جدي في مستقبل سوريا وإمكانية دعم استقرارها، ليس فقط لصالح السوريين أنفسهم، بل لضمان استقرار المنطقة بأسرها. فالحرب السورية لم تخلّف فقط دمارًا هائلًا في البنى التحتية ونزيفًا سكانيًا واقتصاديًا، بل أفرزت أيضًا واقعًا معقدًا من التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، ما يجعل أي خطوة نحو الاستقرار بحاجة إلى شراكة دولية شاملة وفعّالة.

سوريا بعد الحرب

لقد تغيرت خريطة النفوذ والسيطرة في سوريا بشكل كبير على مدى السنوات الماضية. وبينما استعادت الحكومة السورية سيطرتها على أجزاء واسعة من البلاد بدعم من حلفائها، لا تزال هناك مناطق خارجة عن سيطرتها، وتخضع لنفوذ فصائل متعددة مدعومة من أطراف إقليمية ودولية. هذا الانقسام في الجغرافيا السورية يعقّد مشهد ما بعد الحرب، ويجعل من أي محاولة لبناء الاستقرار بحاجة إلى توافقات واسعة وتنسيق متعدد المستويات.

إن أولى خطوات دعم استقرار سوريا تتمثل في الالتزام الفعلي بسيادتها ووحدة أراضيها. فالمجتمع الدولي، بما فيه الأمم المتحدة والدول الكبرى، مطالب اليوم أكثر من أي وقت مضى بتفعيل قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بسوريا، لا سيما القرار 2254، الذي يشكل خارطة طريق للحل السياسي عبر الحوار السوري-السوري، وإجراء انتخابات حرة بإشراف أممي، وصياغة دستور جديد يعكس تطلعات السوريين جميعًا. هذه العملية السياسية، وإن تعثرت مرارًا، لا تزال الممر الإلزامي نحو مستقبل مستقر.

لكن العملية السياسية وحدها لا تكفي، فثمة حاجة ماسّة إلى معالجة التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي أفرزتها الحرب. تشير التقديرات إلى أن خسائر الاقتصاد السوري تجاوزت 400 مليار دولار، فيما يعيش أكثر من 90% من السكان تحت خط الفقر. هذه الأرقام الكارثية لا يمكن تجاوزها دون دعم دولي حقيقي، يتجاوز حدود المساعدات الإنسانية الطارئة إلى مشاريع إعادة الإعمار والتنمية المستدامة. هنا تبرز مسؤولية المجتمع الدولي في خلق بيئة استثمارية آمنة وشفافة، وإعادة تشغيل القطاعات الحيوية كالكهرباء والمياه والتعليم والصحة.

وتعد قضية اللاجئين والنازحين الداخليين من أكثر القضايا حساسية وإلحاحًا في المرحلة الراهنة. فبحسب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، لا يزال أكثر من 13 مليون سوري بين لاجئ ونازح، موزعين على دول الجوار وأوروبا. إن دعم الاستقرار في سوريا لا يمكن فصله عن إيجاد آلية دولية عادلة وآمنة لعودة اللاجئين، تضمن كرامتهم وتحترم حقوقهم، وتوفر لهم فرص العيش الكريم في مناطقهم الأصلية أو المناطق التي يختارون الاستقرار فيها. ويتطلب ذلك تعاونًا بين الدول المضيفة والحكومة السورية والمنظمات الدولية، لإزالة العقبات القانونية والأمنية واللوجستية التي تعيق هذه العودة.

وفي السياق الأمني، لا تزال سوريا تواجه تهديدات متعددة، من خلايا تنظيم داعش النشطة في بعض البؤر الصحراوية، إلى الميليشيات المسلحة المدعومة خارجيًا، فضلًا عن الاحتلال الأجنبي في مناطق مختلفة. ويُعد تفكيك هذه البنى المسلحة ودمج بعض عناصرها ضمن مؤسسات الدولة، أحد أهم متطلبات الاستقرار طويل الأمد. كما ينبغي دعم قدرات الأجهزة الأمنية السورية لتتمكن من ضبط الأمن الداخلي، ومكافحة التهريب والجريمة المنظمة، وضمان سيادة القانون على كامل الأراضي.

كما لا يمكن إغفال أهمية المصالحة الوطنية كجزء من عملية التعافي. إذ ينبغي خلق مناخ يسمح بإعادة دمج الفئات المتصارعة، وفتح باب العفو العام المدروس، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وكشف مصير المفقودين. فالمجتمع السوري الذي تعرض لانقسامات عميقة بحاجة إلى بناء الثقة مجددًا، من خلال خطاب جامع ومؤسسات دولة تضمن العدالة والمساءلة. ومن هنا، يمكن للمجتمع الدولي أن يدعم المبادرات المحلية للسلام والمصالحة، عبر تمويلها وتوفير الخبرات والتجارب المقارنة.

أما الدور الإقليمي، فله أبعاد كبيرة في صياغة مستقبل سوريا بعد الحرب. فالدول المجاورة، من تركيا إلى العراق ولبنان والأردن، لعبت أدوارًا مختلفة خلال سنوات النزاع، بعضها عسكري وبعضها سياسي وإنساني. اليوم، هناك فرصة حقيقية لتنسيق الجهود الإقليمية ضمن إطار دبلوماسي جديد يهدف إلى تحقيق الاستقرار، بدلًا من تغذية الصراعات بالوكالة. وينبغي على الدول العربية، وفي مقدمتها السعودية ومصر والإمارات، أن تستثمر في استعادة سوريا إلى محيطها العربي عبر القنوات السياسية والاقتصادية والثقافية، لتعزيز التوازن الإقليمي.

ولا يقل الدور الأوروبي أهمية عن ذلك، خاصة في ظل ارتباط الأمن الأوروبي بالاستقرار في الشرق الأوسط. فقد واجهت أوروبا موجات لجوء كبيرة، وهجمات إرهابية مرتبطة جزئيًا بالوضع السوري.

وعليه، فإن دعم الاستقرار في سوريا يخدم المصالح الأوروبية أيضًا، سواء من خلال دعم العملية السياسية، أو عبر المساهمة الفعلية في إعادة الإعمار، أو دعم منظمات المجتمع المدني المحلية التي تلعب دورًا هامًا في إعادة بناء النسيج الاجتماعي.

أما الولايات المتحدة، فهي رغم تقليص حضورها العسكري والسياسي في سوريا، لا تزال تمثل فاعلًا رئيسيًا لا يمكن تجاهله. ويمكن للإدارة الأميركية أن تلعب دورًا إيجابيًا في رفع تدريجي للعقوبات الاقتصادية، وربط ذلك بتقدم في ملف الإصلاح السياسي وحقوق الإنسان. فالعقوبات، رغم أنها وُضعت للضغط على النظام، أضرت بشكل مباشر بالمواطنين، وأعاقت كثيرًا من جهود الإغاثة والتنمية. وهذا يضع المجتمع الدولي أمام تحدي الموازنة بين الضغط السياسي والمصلحة الإنسانية.

ومن زاوية قانونية وإنسانية، فإن مسألة العدالة الانتقالية تبرز بوصفها عنصرًا أساسيًا لتحقيق السلام المستدام. فتوثيق الجرائم، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة، وتعويض الضحايا، كلها ضرورات لا يمكن تجاهلها. ويمكن للمجتمع الدولي أن يدعم إنشاء آليات قضائية مختلطة، أو محاكم وطنية مختصة، لمعالجة هذه القضايا بشكل يحفظ حق الضحايا ويمنع تكرار الانتهاكات مستقبلًا.

إن بناء سوريا ما بعد الحرب لا يعني فقط ترميم الأبنية وإعادة الكهرباء، بل يشمل بالضرورة إعادة بناء الإنسان السوري، وتمكينه من استعادة دوره في مجتمعه. ويستدعي ذلك دعم برامج التعليم والتدريب المهني، وتعزيز حرية الإعلام والتعبير، وتوسيع مشاركة الشباب والنساء في الحياة العامة. وهنا، يمكن للمنظمات الدولية أن تضطلع بدور ريادي، بالتعاون مع الجهات السورية الرسمية والأهلية، لتأهيل الكوادر الوطنية وتفعيل الطاقات البشرية المعطّلة.

ورغم كل التحديات، فإن الإرادة الشعبية في سوريا لا تزال حاضرة بقوة. فقد أثبت السوريون في الداخل والخارج قدرتهم على الصمود والتكيّف، وعلى خلق مبادرات مجتمعية تعكس رغبتهم في الحياة والاستقرار. وهذا يشكل رصيدًا هائلًا يمكن البناء عليه، شرط أن يتمتع بدعم فعلي من المجتمع الدولي، لا يكتفي بالتصريحات والوعود.

وختامًا، فإن دعم المجتمع الدولي لاستقرار سوريا ليس خيارًا أخلاقيًا فقط، بل مصلحة استراتيجية شاملة. فاستمرار الفوضى في سوريا يعني بقاء بؤر التطرف، وتنامي التهريب والهجرة غير الشرعية، وتفاقم الأزمات الإنسانية. أما استقرار سوريا، فيعني بداية جديدة لمنطقة الشرق الأوسط، مبنية على التوازن والتنمية والتكامل. ولذلك، فإن على المجتمع الدولي أن يتحرك، لا من موقع المتفرج، بل من موقع الشريك في إعادة بناء وطن تهدم، وشعب يستحق أن يعيش بكرامة على أرضه.

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-