شهدت أسواق الذهب العالمية ارتفاعًا قياسيًا في الأسعار، ما أثار موجة واسعة من التساؤلات لدى المستثمرين والمراقبين حول مستقبل هذا الصعود، الذي يأتي في وقت تتزايد فيه التوترات الاقتصادية والسياسية حول العالم. وقد وصل سعر أونصة الذهب إلى 3400 دولار بنسبة ارتفاع بلغت 1.50%، وهو أعلى مستوى تسجله منذ شهر، بينما تباينت أسعار غرام الذهب في السوق المحلية التركية بين 4300 و4350 ليرة تركية، مما يشير إلى قوة الزخم الذي يشهده المعدن النفيس.
الخبيرة الاقتصادية شيرين ساري، وفي تصريحات لصحيفة “خبر تورك”، أوضحت أن ما نشهده حاليًا من صعود في أسعار الذهب لا يرتبط فقط بالعوامل التقليدية من عرض وطلب، بل بتراكم مجموعة من المستجدات الجيوسياسية والاقتصادية التي تدفع المستثمرين إلى اللجوء إليه كملاذ آمن. وأشارت إلى أن الطلب على الذهب شهد ارتفاعًا ملحوظًا بعد القفزة الأخيرة في الأسعار، وهو ما يتكرر عادة في الأسواق عند تحطيم مستويات قياسية، وخصوصًا في الأسواق الشعبية مثل “البازار الكبير” في إسطنبول.
من أبرز العوامل التي تقف خلف هذا الارتفاع الحاد، التوترات التجارية بين الولايات المتحدة وعدد من الدول، في ظل استعداد واشنطن لفرض رسوم جمركية جديدة اعتبارًا من مطلع أغسطس، وهو ما يُنذر بجولة جديدة من التصعيد في النزاع التجاري العالمي. كما يلعب عامل أسعار الفائدة دورًا حاسمًا، إذ يترقب المستثمرون قرارات وشيكة من البنوك المركزية الكبرى، وفي مقدمتها البنك المركزي الأوروبي والبنك المركزي التركي، الذي تشير التوقعات إلى نيته تخفيض الفائدة بمعدل يتراوح بين 250 و350 نقطة أساس.
هذا بالإضافة إلى الضغوط المتزايدة على مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، ورئيسه جيروم باول، الذي يواجه ضغوطًا سياسية كبيرة من إدارة الرئيس الأميركي من أجل اعتماد سياسة نقدية أكثر تيسيرًا، وسط شائعات عن احتمال استقالته من منصبه.
على صعيد آخر، ساهمت مشتريات البنوك المركزية في دعم أسعار الذهب، حيث تواصل دول مثل الصين وبولندا تعزيز احتياطاتها من المعدن الثمين، ما يوفر دعامة قوية للسوق حتى في ظل تقلّب الطلب الفردي من المستثمرين. وتشير ساري إلى أن هذه المشتريات ليست مرتبطة فقط بالتحوط من الأزمات، بل تعكس أيضًا استراتيجيات طويلة الأمد لدى هذه الدول لتعزيز قوة احتياطاتها النقدية في مواجهة حالة عدم الاستقرار التي تلف النظام المالي العالمي.
وترى الخبيرة الاقتصادية أن الغموض الجيوسياسي، من نتائج الانتخابات في اليابان، إلى التوترات المستمرة في الشرق الأوسط، واحتدام النزاع بين روسيا وأوكرانيا، كلها عوامل تدفع باتجاه تعزيز مكانة الذهب كخيار استثماري آمن، رغم احتمالات التراجع المؤقت في بعض الفترات. وتؤكد أن الذهب سيبقى جزءًا من المحافظ الاستثمارية، مع تغير في النسبة المخصصة له بناء على تطورات السوق.
ومع اقتراب شهر سبتمبر، تتزايد التوقعات بأن السوق قد يشهد فترة من الهدوء النسبي بعد موجة الصعود الراهنة، وقد يتجه بعض المستثمرين نحو أدوات مالية أكثر مخاطرة كالأصول الرقمية أو الأسهم، وهو ما قد ينعكس على أسعار الذهب. غير أن الخبراء يحذرون من الافتراض بأن موجة الصعود هذه قد تستمر دون توقف، فالتقلبات ستظل سمة رئيسية تحكم السوق في ظل غياب حلول جذرية للتوترات القائمة، لا سيما في مجال التجارة الدولية والضرائب المفروضة على المعادن الأخرى مثل الألومنيوم والنحاس والزنك.
وفي الوقت الذي تسود فيه حالة من الحذر بين المستثمرين، يبدو أن الذهب سيبقى حاضرًا في المشهد الاقتصادي كخيار ضروري لكل من يسعى إلى الحماية من التقلبات، خصوصًا في عالم تتزايد فيه الأزمات وتعجز فيه السياسات التقليدية عن تقديم إجابات حاسمة.