لا يحتاج المتابع العادي اليوم إلى وثائق مسرّبة أو تصريحات خفية ليعلم أن ما يجري في سوريا لم يعد مجرد نزاع سياسي أو تمرد داخلي، بل بات تنفيذًا واضحًا لمشروع تفكيك الدولة السورية إلى كيانات متنازعة ومتصارعة، بعضها بغطاء طائفي، وبعضها بغطاء فيدرالي، وآخر بأدوات خارجية تسعى لتقطيع الجغرافيا السورية وتحويلها إلى مربعات أمنية مرتبطة بدول أجنبية، بما فيها إسرائيل.
![]() |
ما يحدث في سوريا الآن ليس صدفة |
من السويداء إلى شرق الفرات، ومن إدلب إلى الحدود الجنوبية، تمضي مشاريع مشبوهة بخطى متسارعة، وتستخدم أدوات محلية وأذرعًا إعلامية وغطاء دوليًا تحت مسميات خادعة، والهدف واحد: تمزيق ما تبقى من وحدة سوريا، وإنهاء الدولة المركزية، وفرض واقع تقسيمي يُدار من الخارج.
في السويداء، حيث تتصاعد الأحداث مؤخرًا، باتت المؤشرات لا تخطئ: مجموعات مسلحة ذات طابع طائفي، تتحدى مؤسسات الدولة، وترفض التسويات، وتفرض “إدارتها الذاتية” على الأرض، مع تصاعد المطالب التي بدأت خجولة، ثم تحوّلت إلى لغة انفصالية تحت شعار “الكرامة” أو “الإدارة الذاتية”. بينما في الخلفية تقف قوى خارجية، على رأسها إسرائيل، تدير المشهد بهدوء من خلف الستار، تمهيدًا لما يُعرف بـ”ممر داود”؛ المخطط الذي يربط الجنوب السوري بالمثلث الحدودي مع الأردن وفلسطين المحتلة، لتأمين شريط نفوذ إسرائيلي يمتد عميقًا في العمق السوري.
السويداء اليوم تُجَرّ إلى خيار خطير: حكم ذاتي غير معلن، ينطلق من واقع أمني مفكك، ومؤسسات دولة عاجزة عن ممارسة دورها، بحجة حماية الأهالي، لكنه في جوهره يفتح الباب لتدويل المنطقة، ويدفع نحو عزلها عن محيطها الوطني والعشائري.
في الوقت ذاته، لا يمكن تجاهل ما يحدث في شمال شرق سوريا، في منطقة الجزيرة السورية، حيث تسيطر “قسد” بدعم أمريكي مباشر، وتفرض نظامًا أقرب إلى الفيدرالية، يتم فيه استبعاد المكونات العربية، وتمرير أجندات لا تمثل كل سكان المنطقة. وكل ذلك يجري ضمن صمت دولي مريب، وبدعم استخباراتي من قوى إقليمية، تريد إنشاء كيان منفصل، يُستخدم كورقة ضغط دائمة على الدولة السورية.
المخيف في المشهد أن كل هذه الكيانات لا تملك قرارها، ولا تمثل أهلها فعليًا، بل تُستخدم كأدوات لمشاريع تقسيمية أوسع، تستند إلى اتفاقات صامتة بين أطراف إقليمية ودولية تسعى لتوزيع الكعكة السورية وفق مصالحها، وليس وفق إرادة الشعب السوري.
وما يعزز المخاوف أكثر، هو التمهيد الإعلامي والثقافي الذي يُبث يوميًا لتبرير التقسيم: الحديث عن “خصوصية المناطق”، وعن “الفيدرالية كحل”، وعن “الحكم الذاتي كوسيلة لحماية الأقليات”، وهي كلها شعارات أُنتجت سابقًا في العراق وليبيا واليمن، وكانت بوابة للفوضى وليس للاستقرار.
إسرائيل ليست غائبة عن المشهد. بل على العكس، فهي المستفيد الأول من كل نقطة دم تُسفك في سوريا، ومن كل كيان جديد يُقام خارج سيادة الدولة. فهي تدفع باتجاه تقسيم سوريا إلى طوائف ومناطق نفوذ، من أجل خلق “هلال أمني” يعزلها عن أي تهديد مستقبلي من العمق العربي. ومشروع “ممر داود” الذي تسعى إليه، يهدف إلى فتح ممر آمن لها يمتد من شمال فلسطين المحتلة حتى الحدود العراقية، عبر الجنوب السوري والبادية، مع ما يحمله هذا من مخاطر أمنية واستراتيجية على سوريا والمنطقة.
الشعب السوري اليوم أمام مفترق طرق تاريخي. لم يعد كافيًا أن نقول إننا ضد التقسيم، أو نرفض الفيدرالية. بل يجب أن نكون أكثر وعيًا لكل المؤشرات والدلائل، وأن نفهم كيف يتم خداع الناس بشعارات براقة تخفي خلفها مشاريع تقسيمية خطيرة. لأن الحروب لا تبدأ بانفجار، بل تبدأ بهدوء، بخطاب تصعيدي، بانقسام مجتمعي، بترويج الكراهية، وانتهاء بثقة مفقودة بين الدولة والمواطن.
إن ما يُخطط لسوريا ليس جديدًا، بل هو استمرار لمشروع “الشرق الأوسط الجديد”، الذي رُسم في مكاتب تل أبيب وواشنطن، ويريد تحويل سوريا إلى دويلات عاجزة عن النهوض، ومرتبطة أمنيًا واقتصاديًا بالخارج. والسلاح اليوم ليس فقط في يد من يحمل البندقية، بل أيضًا في يد من يُدير الإعلام، ويصنع الشائعات، ويُحرّض الفئات ضد بعضها البعض.
الطريق الوحيد لمواجهة هذا المشروع هو بوحدة الموقف، بعودة الثقة بين الشعب والدولة، بتفعيل مشروع وطني جامع يُشرك الجميع دون تهميش أو تخوين، ويعيد بناء الدولة على أسس العدالة لا على منطق الغلبة. ولا يمكن إنقاذ سوريا إن بقي كل طرف يعتقد أنه يمثل الحقيقة وحده، أو يفرض رؤيته بالقوة، لأن النتيجة ستكون حربًا أهلية شاملة، أو تقسيمًا واقعًا لا يمكن إصلاحه لاحقًا.
فلننظر من حولنا: ما الذي حصل للعراق بعد التقسيم الطائفي؟ ما الذي جرى لليبيا بعد تمزيق مؤسساتها؟ ماذا عن اليمن الذي لا يزال يتخبط بين الانقسام والموت؟ سوريا ليست استثناء، وإذا لم نستيقظ الآن، فإننا سنفيق لاحقًا على وطن لم يعد موجودًا.
السويداء اليوم في القلب، ولكن الخطر يهدد كل سوريا. وهذا المقال دعوة لكل سوري حر: لا تصدقوا كل ما يُقال لكم، دققوا في التفاصيل، وراقبوا من يحرّض ومن يدفع نحو التصعيد، ومن يصمت عن الفوضى حين تخدمه. المعركة اليوم ليست بين طائفة وأخرى، بل بين من يريد بقاء سوريا، ومن يريد أن تُمحى من الخارطة.