في ظهور مصوّر هو الأول له منذ سنوات وبل أكثر من ربع قرن، أعلن قائد حزب العمال الكردستاني ”عبد الله أوجلان”، انتهاء الكفاح المسلح ضد الدولة والحكومة التركية، داعياً إلى الانتقال الكامل إلى العمل السياسي الديمقراطي، في خطوة وُصفت بالتاريخية وتفتح الباب أمام تحوّلات إقليمية كبرى، خاصة في الملف الكردي داخل تركيا وسوريا.
الرسالة التي بُثت الثلاثاء باللغة التركية، شكّلت مفاجأة للرأي العام التركي والإقليمي، إذ قال أوجلان، المعتقل في سجن إيمرالي منذ عام 1999، إنّ “زمن حرب التحرير الوطنية قد انتهى، ولم تعد هناك حاجة إلى العنف أو العمل المسلح لتحقيق تطلعات الشعوب”، مشيراً إلى أن المرحلة القادمة تتطلب “العمل من داخل المؤسسات السياسية القائمة وتحت سقف الدولة”.
وأضاف أوجلان: “نؤمن اليوم بقوة السياسة لا بالسلاح، وبأن الديمقراطية الطريق الوحيد لتأمين حقوق الجميع. لم نعد نسعى إلى إقامة دولة قومية مستقلة، بل إلى نظام سياسي ديمقراطي يضمن العدالة والمساواة لكافة المكونات”. هذا الإعلان الذي وُصف بالنقلة المفصلية في مسار “حزب العمال الكردستاني”، أعقبه تأكيد بأن الحزب لم يعد يتبنّى مشروع الدولة القومية، بل تجاوز هذه الفكرة نحو ما سماه “الكونفدرالية الديمقراطية”.
ودعا أوجلان البرلمان التركي إلى تشكيل لجنة وطنية مستقلة تشرف على عملية السلام ونزع السلاح، داعياً الدولة التركية إلى التفاعل مع هذه المبادرة بروح الانفتاح، مشدداً على أن التوقيت الحالي يشكّل “فرصة تاريخية لا ينبغي تفويتها”.
تأتي هذه التصريحات في وقت بالغ الحساسية، على خلفية التغيّرات السياسية التي تشهدها الساحة السورية بعد سقوط نظام بشار الأسد، وبروز قيادة جديدة في دمشق بقيادة الرئيس أحمد الشرع، الذي أعلن منذ تسلمه السلطة سعيه لإعادة بناء الدولة على أسس ديمقراطية وشاملة.
وفي السياق، كشفت مصادر مطلعة لـ”سرت الإخبارية” أن الأيام القادمة قد تشهد لقاءً ثلاثيًا في دمشق، يجمع بين المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا توم باراك، والرئيس السوري أحمد الشرع، وقائد “قوات سوريا الديمقراطية” مظلوم عبدي، بهدف دفع اتفاق سياسي يشمل دمج مؤسسات “قسد” ضمن الدولة السورية الجديدة. هذا التطور قد يعيد رسم التوازنات في شمال شرقي سوريا، حيث طالما اعتُبر “حزب الاتحاد الديمقراطي – PYD” أحد أذرع “العمال الكردستاني”.
وكان “حزب العمال الكردستاني” قد أعلن في 12 أيار الماضي، قراره بحلّ نفسه نهائياً، بعد دعوة صريحة من مؤسسه أوجلان، الذي شدد حينها على ضرورة إنهاء النشاط المسلح والتوجّه إلى “العمل القانوني والديمقراطي فقط”. ودعا البيان الصادر عن الحزب حينها إلى حل جميع المجموعات المرتبطة به في سوريا والعراق وإيران، مؤكداً أن المرحلة الجديدة تتطلب لغة سياسية جديدة وتخلّياً عن أي مظاهر عسكرية.
التحوّل المفاجئ في خطاب أوجلان يأتي في ظل ضغط تركي متصاعد على التنظيمات المسلحة، وضمن واقع إقليمي متغير، حيث تشهد المنطقة إعادة تموضع سياسي وعسكري في ظل تغييرات القيادة في دمشق، وتعاظم الحديث عن “شرق أوسط جديد” قائم على التهدئة وبناء الشراكات بدل الصراع.
وفي كلمته، لم يُخفِ أوجلان الإشارة إلى أنّ هذه المبادرة جاءت نتيجة نقاشات طويلة داخل الحركة الكردية، وبعد مراجعة نقدية للتجربة السابقة، مؤكداً أن “العمل المسلح لم يعد أداة ناجعة في زمن التحوّل السياسي العالمي”. واعتبر أن المسار الجديد للحركة الكردية يجب أن يقوم على “الاندماج في الحياة السياسية والدفاع عن الحقوق من داخل الأنظمة الديمقراطية”، داعياً الشعب الكردي إلى تبني هذا المسار ودعم خطوات السلام.
أما في الداخل التركي، فمن المتوقع أن تُحدث تصريحات أوجلان تفاعلات كبيرة على المستويين السياسي والأمني، خاصة إذا بادرت الحكومة التركية بدورها إلى التجاوب مع هذه المبادرة، التي تُمثّل أول إعلان رسمي من زعيم الحزب بوقف الكفاح المسلح منذ تأسيس التنظيم في نهاية السبعينيات.
وكمت تتزايد التسأل حول إمكانية إعادة إحياء مسار التسوية السياسية الذي جُمد طيلت السنوات الماضية، وتسبّب توقف في عودة العنف إلى مناطق جنوب شرقي تركيا، مع ما تبعه من عمليات عسكرية داخل وخارج البلاد، استهدفت قواعد الحزب وامتداداته.
الدوائر السياسية التركية التزمت حتى اللحظة الصمت إزاء كلمة أوجلان، بينما تحدثت بعض وسائل الإعلام القريبة من الحكومة عن ضرورة “قراءة التحوّل بعين الحذر والمسؤولية”، مع دعوات متفرقة في المعارضة إلى تشكيل لجنة برلمانية للنظر في مضمون الدعوة، وسط انقسام بين من يرى فيها فرصة لإنهاء صراع دام عقوداً، ومن يعتبرها مناورة سياسية من جهة فقدت حضورها الميداني.
في حين يرى مراقبون أن التطورات داخل سوريا، واللقاءات المرتقبة بين الحكومة الجديدة في دمشق وقادة “قسد”، قد تكون الدافع الأساسي لهذا التحوّل في موقف أوجلان، الذي لم يظهر منذ اعتقاله عام 1999، إلا عبر رسائل مكتوبة كانت تُنقل بوسائل محدودة. أما الظهور المصور الأخير، فهو يحمل دلالة رمزية كبيرة، في توقيت إقليمي يشي بإعادة هندسة الخرائط السياسية من جديد.
ورغم أن الطريق نحو تسوية شاملة لا يزال معقدًا، إلا أن رسالة أوجلان قد تكون الخطوة الأولى نحو إنهاء أكثر الصراعات دموية في تركيا والمنطقة، خصوصًا إذا ما اقترنت بإجراءات عملية على الأرض، والتزام متبادل بين الدولة والأطراف الكردية بالابتعاد عن العنف.