بخطوة توصف بأنها الأهم في مجال النقل الحضري منذ عقود، وقّعت الحكومة السورية مذكرات تفاهم مع عدد من الشركات الدولية لإطلاق مشروع مترو دمشق، بحضور الرئيس أحمد الشرع في قصر الشعب بالعاصمة. المشروع، الذي يتجاوز كونه مجرد وسيلة مواصلات، يهدف إلى إحداث نقلة نوعية في بنية النقل والبنية التحتية للعاصمة، ويُتوقع أن يشكّل بداية حقيقية لدمشق أكثر تنظيمًا واستدامة.
المترو الجديد الذي حمل اسم “الخط الأخضر” يربط بين معضمية الشام والقابون، بطول يصل إلى 26.5 كيلومتر، ويتضمن 17 محطة موزعة بعناية على عدد من الأحياء والمناطق الحيوية في دمشق، أبرزها المزة، جامعة دمشق، ساحة العباسيين، الحجاز، التحرير، ومحطة البولمان. هذا التوزيع ليس عشوائيًا، بل مدروس بعناية ليربط بين أكبر التجمعات السكنية والمراكز الإدارية والخدمية والتعليمية في المدينة.
وفق البيانات الرسمية، فإن مشروع مترو دمشق سيخدم يوميًا أكثر من 750 ألف راكب، منهم حوالي 250 ألف زائر، و300 ألف موظف، إضافة إلى 70 ألف طالب جامعي، مما يجعله العمود الفقري لأي خطة مستقبلية تهدف لتنظيم حركة التنقل داخل العاصمة. ويتوقع أن يسهم المشروع في تخفيف الازدحام المروري الحاد الذي تعاني منه شوارع المدينة، وخاصة في أوقات الذروة، ما ينعكس إيجابًا على جودة الحياة والبيئة والاقتصاد المحلي.
تكلفة المشروع الاستثمارية تُقدّر بـ2 مليار دولار، وستُنفذ وفق نموذج تشاركي بين القطاعين العام والخاص، يتيح جذب الاستثمارات الأجنبية، وتوفير فرص العمل، وتحريك العجلة الاقتصادية في قطاعات البناء والخدمات واللوجستيات. هذه الأبعاد الاقتصادية تجعل من مشروع مترو دمشق بوابة لعصر جديد من التنمية العمرانية المتكاملة، تتجاوز النقل إلى التأثير في تخطيط المدينة ككل.
اللافت أن تصميم مسار المترو لا يقتصر على كونه خطاً أرضياً فقط، بل يتنوع بين العمل تحت الأرض (أنفاق)، وفوق الأرض (جسور)، وأيضًا على سطح الأرض، وذلك بحسب خصوصية كل منطقة من حيث الكثافة السكانية، الأهمية العمرانية، والمنظور البصري العام. هذا التنوع التقني يعكس فهماً دقيقًا للتحديات المعمارية والجغرافية التي تفرضها العاصمة دمشق، وخاصة مع وجود أحياء تراثية وتاريخية حساسة.
ضمن المخطط التنفيذي، سيُقام مركز تبادلي ضخم في منطقة السومرية، مقابل مركز انطلاق الغرب، يتضمن مرآبًا يتسع لأكثر من ألف سيارة، ويهدف هذا المركز إلى دمج خطوط المترو مع باقي وسائط النقل (الباصات، الميكروباصات، التكاسي العامة والخاصة)، ما يعزز مفهوم النقل التكاملي ويمنح المستخدمين تجربة تنقل مريحة ومنظمة.
الجهات المشرفة على المشروع أكدت أن مترو دمشق سيكون مرتبطًا بمحطتي الحجاز والقابون للسكك الحديدية، ما يتيح للمسافرين الوصول السلس إلى شبكات القطارات الداخلية والخارجية مستقبلًا. وبذلك، لا يُعد المشروع حلاً داخليًا فقط، بل بوابة لتوسيع نطاق الاتصال الإقليمي لاحقًا، ضمن منظومة متكاملة للنقل.
مشروع مترو دمشق ليس فقط استجابة لحاجة المدينة المتزايدة لحلول تنقل ذكية، بل هو استثمار في مستقبلها. فالنقل الحديث يعني تقليل الهدر الزمني، وخفض الانبعاثات، وتحسين جودة الهواء، كما يعني قدرة أكبر على استيعاب التوسع العمراني بطريقة منظمة. وعلى المدى البعيد، فإن البنية التحتية للنقل العام تُعدّ أحد المقومات الأساسية لجذب المستثمرين وتحفيز النشاط الاقتصادي.
ويُنظر إلى هذا المشروع كأداة فعّالة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة التي وضعتها الحكومة الجديدة، خاصة في ما يخص التحول نحو مدن خضراء، والحد من التلوث البيئي، وتعزيز مشاركة القطاع الخاص في مشاريع الخدمات العامة. كما أنه يمثل رسالة واضحة بأن #دمشق تتجه نحو استعادة مكانتها كعاصمة عربية عصرية وقادرة على مواكبة التطور العالمي في الخدمات الحضرية.
أهمية مشروع مترو دمشق تكمن أيضاً في رمزيته؛ فبعد سنوات من الحرب والدمار والشلل شبه الكامل لحركة التطوير، تأتي هذه الخطوة لتؤكد على إرادة الدولة في البناء والإعمار، لا فقط على المستوى الإنشائي، بل كمؤشر على استعادة الإحساس بالاستقرار والقدرة على التخطيط طويل الأمد.
المواطنون الذين تابعوا الإعلان عن المشروع أبدوا تفاؤلهم، إذ يرون في المترو فرصة حقيقية لتغيير شكل الحياة اليومية في العاصمة، وتحسين ظروف التنقل التي طالما كانت عائقاً أمام الإنتاجية، والحياة الكريمة، والتنمية. البعض الآخر يأمل أن لا يبقى المشروع على الورق، بل أن يرى النور في أقرب وقت، خاصة مع وجود دعم سياسي علني على أعلى المستويات لتنفيذه.
وبين التوقيع على المذكرات اليوم، والانطلاق الفعلي للأعمال الإنشائية قريباً، تقف #دمشق أمام مفترق طرق؛ إما أن تواصل اعتمادها على نماذج قديمة من النقل المزدحم والعشوائي، أو أن تخطو بثقة نحو المستقبل بخيارات نقل حضرية ذكية وفعّالة.
ومع توفر الإرادة السياسية، والتمويل الدولي، والدراسات الفنية المتقدمة، يبدو أن الخيار الثاني أصبح أقرب من أي وقت مضى. ويبقى السؤال الأهم: هل يستطيع مترو دمشق أن يتحول من مشروع على الورق إلى واقع ملموس يغيّر حياة الملايين؟ الأيام المقبلة ستجيب.