في تحول لافت ضمن ملف الطاقة السوري، أعلنت وزارة الطاقة أن البلاد تستعد لبدء مرحلة جديدة من التوليد الكهربائي المعتمد على الغاز الأذري، اعتباراً من مطلع الأسبوع المقبل. خطوة وصفت بأنها “نقلة نوعية” في قطاع الطاقة، من شأنها أن تعزز ساعات التغذية اليومية وتخفف من أعباء الانقطاع الكهربائي الذي طالما شكّل تحدياً كبيراً للمواطن السوري في مختلف المحافظات. ووفقاً لما أعلنه المتحدث الرسمي ومدير الاتصال الحكومي في وزارة الطاقة، أحمد السليمان، فإن هذه الخطوة ستسهم في زيادة عدد ساعات الكهرباء الممنوحة للمواطنين بمعدل خمس ساعات إضافية يومياً، وهو تطور غير مسبوق منذ سنوات.
السليمان، الذي أدلى بتصريحاته عبر القناة الرسمية للوزارة على تلغرام، أوضح أن الخطوة تأتي بعد الانتهاء من المرحلة التمهيدية لمشروع توريد الغاز الأذري إلى سوريا، والتي تمثّلت في تعبئة الأنابيب وضخ الغاز بنجاح داخل شبكة النقل الوطنية. وبيّن أن الكميات الداخلة في الوقت الراهن بلغت مليوني متر مكعب يومياً، وهو ما يعد بداية قوية للمرحلة الأولى من المشروع، على أن يرتفع هذا الرقم تدريجياً وفقاً لمخطط التنفيذ. وفي الوقت ذاته، أكد جاهزية البنية التحتية لاستقبال هذه الكميات بكفاءة عالية، مشيراً إلى أن محطات جندر وتشرين والناصرية ستكون أولى المحطات التي تستفيد من هذا الغاز خلال الأيام المقبلة، حيث ستبدأ وحدات التوليد بالدخول في الخدمة تباعاً.
يدرج هذا التطور بعد توقيع مذكرة تفاهم في الثاني عشر من تموز الماضي بين سوريا وأذربيجان، تهدف إلى تعزيز التعاون الثنائي في مجال الطاقة، وتحديداً في توريد الغاز الطبيعي. وقد جرى تنفيذ المشروع عبر تركيا، بدعم مباشر وتمويل قطري، وهو ما يعكس، بحسب مراقبين، تغيراً نوعياً في طبيعة العلاقات الإقليمية التي تسمح بنقل الغاز من أذربيجان إلى الأراضي السورية رغم التعقيدات الجيوسياسية. المشروع، الذي بدأ تنفيذه في الثاني من آب الجاري، يخطط لتوريد نحو 3.4 ملايين متر مكعب يومياً في مراحله الكاملة، وهو ما يعادل تقريباً ثلث حاجة سوريا اليومية في فترات الذروة. وتُخصص هذه الكميات بشكل أساسي لتشغيل محطات التوليد العاملة على الغاز، ضمن خطة تشغيلية تهدف إلى إنتاج ما بين 700 إلى 800 ميغاواط يومياً.
أحمد السليمان أكّد أن الاعتماد على الغاز كمصدر رئيسي للطاقة ليس فقط خياراً تقنياً بل ضرورة استراتيجية، لكونه أقل تكلفة من الوقود السائل وأكثر كفاءة في عمليات التوليد. وأضاف أن إدخال الغاز الأذري إلى محطات التوليد سيؤدي إلى تحسين كبير في استقرار الشبكة الكهربائية، وتقليل فترات الانقطاع، ورفع قدرة المحطات على تلبية الطلب المتزايد، لاسيما في فصل الصيف. ومن المعروف أن الطاقة الإنتاجية للمنظومة الكهربائية السورية تراجعت بشكل كبير خلال السنوات الماضية بسبب العقوبات والحصار ونقص الموارد، ما انعكس على مختلف القطاعات الاقتصادية والخدمية في البلاد.
وبحسب مسؤولين في وزارة الطاقة، فإن المرحلة المقبلة ستشهد مراجعة شاملة لخريطة التوليد والتوزيع، بناء على المتغيرات الجديدة التي طرأت نتيجة دخول الغاز الأذري في المنظومة. ويُتوقع أن يتم تعزيز المحطات العاملة في المنطقة الوسطى، وتوسيع قدرتها التشغيلية، بما يسمح بإعادة تشغيل أجزاء كبيرة من المنظومة التي توقفت سابقاً بسبب نقص الوقود. ويترافق ذلك مع تحركات جديدة لاستكمال مشاريع الربط الإقليمي، وربما التفاوض على استيراد كميات إضافية من الغاز من مصادر أخرى في المستقبل، كإيران أو روسيا، في حال توفر التمويل والدعم السياسي.
المواطن السوري، الذي عانى طويلاً من التقنين القاسي الذي فرضته ظروف الحرب والحصار ونقص الوقود، قد يجد في هذا التطور بارقة أمل بتحسن ظروف المعيشة، ولا سيما أن الكهرباء ترتبط بشكل مباشر بكافة مظاهر الحياة من الطبخ والتدفئة وحتى استخدام الإنترنت ووسائل الاتصال. خمس ساعات إضافية من التغذية الكهربائية تعني عودة الحياة إلى كثير من المنشآت الصناعية الصغيرة والمتوسطة، وتخفيف الضغط على الأسر، وتقليل الاعتماد على المولدات الخاصة التي شكلت عبئاً اقتصادياً كبيراً على العائلات السورية. كما أن هذا التطور سيمنح القطاعات الخدمية، كالمستشفيات والمدارس ومراكز الاتصالات، قدرة أكبر على الاستمرارية في تقديم خدماتها دون انقطاع.
في السياق ذاته، رأى خبراء طاقة أن المشروع الجديد قد يفتح الباب أمام استثمارات إضافية في قطاع الطاقة المتجددة أو المختلطة، لاسيما إذا نجحت التجربة الأولى مع الغاز الأذري في تحقيق نتائج ملموسة.
كما أشاروا إلى أن دخول الغاز إلى سوريا قد يعيد ترتيب الأولويات في ملف الطاقة الوطنية، من خلال تقليص الاعتماد على النفط المحلي أو المستورد، وتوجيه الفائض نحو التصدير أو الاستفادة منه في صناعات تحويلية. ولفت بعضهم إلى أن الخطوة الأهم في المرحلة المقبلة ستكون في القدرة على الحفاظ على استمرارية الإمداد، ومنع أي انقطاعات محتملة في سلسلة التوريد، وهي نقطة حساسة في ظل التعقيدات الإقليمية المحيطة بسوريا.
من جانب آخر، فإن الاتفاق بين دمشق وباكو والذي جرى برعاية تركية وتمويل قطري، يعكس ديناميكية سياسية جديدة في الشرق الأوسط، قوامها التعاون في ملفات الطاقة رغم الخلافات السياسية القائمة. فقد كانت العلاقة بين سوريا وتركيا متوترة للغاية خلال العقد الأخير، ومع ذلك فإن مرور الغاز الأذري عبر الأراضي التركية إلى سوريا يشير إلى وجود قنوات تواصل غير معلنة وتفاهمات ضمنية تتيح مرور هذه المشاريع الحساسة. ويعتبر مراقبون أن التمويل القطري للمشروع يعكس اهتمام الدوحة بإعادة موضعة دورها في الملف السوري، خصوصاً في المجال الإنساني والخدمي، وربما تمهيداً لعودة أكبر في المشهد السوري مستقبلاً.
المتحدث باسم وزارة الطاقة ختم تصريحه بالتأكيد على التزام الوزارة بتوسيع الطاقة الإنتاجية خلال الأشهر المقبلة، مع تحسين البنية التحتية وتطوير نظام التوزيع بما يضمن العدالة بين المحافظات. وقال السليمان إن خطة الوزارة لا تقتصر على الاعتماد على الغاز الأذري فقط، بل تتضمن العمل على إدخال مصادر إضافية من الطاقة البديلة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح، إضافة إلى إصلاح وتجديد الشبكات القديمة. وتوقع أن يشهد القطاع الكهربائي تحولاً نوعياً في النصف الأول من العام القادم إذا ما استمر تدفق الغاز بالوتيرة المخطط لها.
وبينما تستعد محطات جندر وتشرين والناصرية للدخول في الخدمة، تترقب العائلات السورية بداية الأسبوع المقبل بترقّب وأمل. فالطاقة، في سوريا اليوم، لم تعد مجرد خدمة بل أصبحت ضرورة بقاء وشرطاً للعيش الكريم مع عودة اللاجئين السوريين للبلاد. ومع دخول الغاز الأذري الخدمة، تضع سوريا قدمها على أول طريق التعافي في ملف الكهرباء، وربما تفتح بذلك صفحة جديدة في قصة صمودها المستمر منذ أكثر من عقد.