في مشهد يحمل الكثير من الرمزية بنسبة للسوريين، اجتمع مهندسون وخبراء تقنيون من أبناء سوريا العاملين في كبرى شركات التكنولوجيا العالمية، على أرض العاصمة السورية دمشق، في فندق البوابات السبع، لإطلاق النسخة الثانية من مؤتمر SYNC’25، الذي يشكل بوابة جديدة نحو توطين التكنولوجيا وربط سوريا بالاقتصاد الرقمي العالمي بعد سنوات من التهميش.
المؤتمر الذي يستمر ليومين، تنظمه مجموعة من رواد الأعمال والمهندسين السوريين - الأميركيين القادمين من وادي السيليكون، بالشراكة مع وزارة الاتصالات وتقانة المعلومات، ليشكل منصة مميزة للتفاعل بين العقول السورية الشابة، وخبراء عالميين يعملون ضمن مؤسسات عملاقة مثل آبل، مايكروسوفت، غوغل، وأمازون.
يحمل المؤتمر شعار “هيا نقود التكنولوجيا”، وهو شعار لا يعكس فقط روح الحدث بل يتجاوز ذلك ليكون دعوة مفتوحة نحو الانخراط الفعّال في بناء مستقبل اقتصادي جديد لسوريا ما بعد الحرب، يقوم على الابتكار والتكنولوجيا، ويضع الكفاءات السورية في مقدمة المشهد العالمي.
عودة العقول السورية من وادي السيليكون إلى دمشق
على مدار سنوات، هاجرت مئات العقول السورية إلى الخارج، معظمها بحثًا عن بيئة علمية ومهنية تتيح لها إطلاق إمكانياتها. لكن مشهد اليوم يختلف، إذ إن العديد من هؤلاء الخبراء قرروا العودة ولو بشكل مؤقت، ليضعوا خبراتهم في خدمة وطنهم الأم.
أحد أبرز هؤلاء هو المهندس باسل العجة، عضو الفريق المنظم للمؤتمر، والذي أشار في تصريح له إلى أن الهدف الأساسي من هذه المبادرة هو “إنشاء شبكة تواصل فعالة بين الكفاءات السورية والشركات العالمية، لتسهيل تبادل الخبرات وتطوير المهارات”.
العجة، الذي يعمل ضمن واحدة من كبرى شركات التكنولوجيا في أمريكا، أكد أن العديد من زملائه السوريين يحتلون مناصب قيادية في شركات عملاقة، وهم على استعداد تام للمساهمة في نقل المعرفة إلى الداخل السوري، ضمن إطار مدروس يضمن الأثر المستدام.
25 ألف فرصة عمل طموح قابل للتحقيق
المؤتمر لم يكن مجرد حديث في القاعات، بل تضمن التزامات حقيقية ومشاريع فعلية قيد التنفيذ. فقد أعلنت المهندسة ميسرة تقي الدين، عضو الفريق التقني، أن المبادرة تسعى لتأمين 25 ألف فرصة عمل في مجال تقانة المعلومات داخل سوريا خلال السنوات الخمس المقبلة.
وأشارت إلى أن بعض الشركات المشاركة أعلنت رسميًا نيتها توفير مئات الفرص فورًا، حيث خصصت إحدى الشركات 500 وظيفة، وأخرى 400، ضمن برامج تطوير تقني تستهدف توظيف الشباب السوري عن بعد أو محليًا، بالتعاون مع المؤسسات التعليمية والهيئات الداعمة.
هذا الهدف، وإن بدا طموحًا، ينسجم مع حاجة السوق السورية، التي تعاني من بطالة متزايدة بين الخريجين، خصوصًا في مجالات التقنية، مقابل وجود فجوة معرفية نتيجة العزلة التكنولوجية التي عاشتها البلاد خلال سنوات الحرب.
الوزير هيكل: المحافظات السورية ستكون منصات للشركات الناشئة
في كلمته الافتتاحية، عبّر وزير الاتصالات وتقانة المعلومات عبد السلام هيكل عن رؤية الحكومة السورية الجديدة نحو اقتصاد رقمي مفتوح، يرتكز على بناء الكفاءات الوطنية، وتمكين المجتمع من خلال التكنولوجيا، بما يسمح بتحويله من مستهلك سلبي إلى منتج فاعل في العالم الرقمي.
وأكد هيكل أن الوزارة تعمل على إطلاق سلسلة من المشاريع الرقمية، أبرزها مشروع “برق” الذي يستهدف رفع سرعات الإنترنت بشكل كبير، ومشروع “سيلك لينك” الذي يهدف إلى إنشاء بنية تحتية من الألياف الضوئية العابرة لسوريا، لتحويلها إلى مركز إقليمي لنقل البيانات.
كما أشار إلى إنشاء شبكة وطنية جديدة تحت اسم “SAIA”، وهي تحالف يضم حاضنات ومسرعات الأعمال لدعم الشركات الناشئة، إلى جانب تأسيس شبكة للمستثمرين السوريين لتحفيز الاستثمار الخاص في ريادة الأعمال.
هذه المبادرات تندرج ضمن استراتيجية طويلة المدى تستهدف جعل المحافظات السورية مراكز لانطلاق شركات تكنولوجية ناشئة، ما يعني أن المدن السورية لن تبقى في الهامش، بل ستكون جزءًا من خريطة العالم الرقمي، خاصة مع دعم الجاليات السورية في الخارج.
الشباب السوري في قلب الثورة التكنولوجية
إحدى القيم الأساسية التي ركّز عليها المؤتمر هي تمكين الشباب، ليس فقط من خلال فرص العمل، بل عبر دمجهم في النقاشات الحقيقية حول مستقبل التكنولوجيا في سوريا.
تناولت مداخلات المشاركين عدة محاور، مثل سبل إدماج الشباب في سوق العمل التكنولوجي، والتقنيات المعتمدة في سوريا، والفرص المتاحة لتطويرها من خلال مشاريع استثمارية. كما ناقشوا دور المرأة في ريادة الأعمال، وتكنولوجيا الصحة، واستخدام الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية.
هذا التفاعل بين الشباب والخبراء فتح الباب أمام تبادل خبرات نادرة، حيث تحدث عدد من المشاركين عن كيفية بناء شركات ناشئة جاهزة للتنافس على المستوى العالمي، وعن أهمية تبني منهجيات هندسة البرمجيات الحديثة في بيئة العمل السورية.
سوريا تدعم المنتج المحلي وتشجع على الاستثمار
الكلمة المفتاحية التي يمكن استخلاصها من روح هذا المؤتمر هي أن سوريا تدعم المنتج المحلي وتشجع على الاستثمار، خاصة في قطاع التكنولوجيا.
المؤتمر سلط الضوء على فرص غير مسبوقة أمام المستثمرين المحليين والدوليين، حيث يمكن الاستفادة من الكفاءات المحلية المدربة، والبنية التحتية الرقمية المتطورة قيد الإنشاء، إلى جانب الدعم الحكومي الذي بدأ يأخذ شكلًا عمليًا.
المستثمرون الحاضرون أكدوا أن البيئة السورية، رغم التحديات، أصبحت مهيأة لجذب استثمارات نوعية، خصوصًا في المجالات الرقمية التي لا تتطلب بنى تقليدية كبيرة، بل تعتمد على الإبداع والكفاءة.
بناء جسر بين الداخل والخارج
أحد الجوانب اللافتة في هذا المؤتمر هو السعي لردم الفجوة بين الداخل السوري والخارج، من خلال إنشاء جسور تواصل حقيقية بين الكفاءات السورية في الداخل والمهنيين السوريين في الخارج.
كما أشارت المهندسة ماسا خير، فإن المؤتمر هو بداية لسلسلة خطوات تهدف إلى اكتشاف المواهب السورية، ومنحها فرصة للمنافسة عالميًا. وأكدت أن انقطاع سوريا عن العالم لفترات طويلة حرم جيلًا كاملًا من التفاعل مع الأسواق العالمية، لكن اليوم بدأت هذه الصورة تتغير.
وأكدت خير أن هناك تصميمًا على تجاوز العزلة الرقمية، وخلق بيئة تسمح للشباب السوري بالظهور على منصات العالم الرقمي بثقة، مستفيدين من شبكات الدعم والتوجيه التي يوفرها المغتربون.
مؤتمر SYNC25 بداية عهد جديد
لا يمكن النظر إلى مؤتمر SYNC’25 بوصفه فعالية عابرة، بل هو خطوة استراتيجية ضمن مسار متكامل لإعادة تموضع سوريا على خارطة التكنولوجيا العالمية.
الحدث عكس رغبة حقيقية لدى مختلف الأطراف في بناء اقتصاد جديد قائم على المعرفة، مدعوم بكفاءات شابة، ومفتوح على العالم، يستفيد من تجارب الدول الأخرى، ويحول المعاناة التي عاشتها سوريا خلال سنوات الحرب إلى طاقة دفع نحو مستقبل مختلف.
حضر المؤتمر عدد كبير من الوزراء السوريين، إلى جانب مسؤولين من القطاعين العام والخاص، ورواد أعمال محليين وعرب وأجانب، ما يعكس مدى الاهتمام بهذا النوع من المبادرات، ومدى تقاطعها مع الرؤية الاقتصادية الأوسع للحكومة السورية في المرحلة القادمة.
تعد لحظة مفصلية، تؤكد أن التحول الرقمي لم يعد خيارًا بل ضرورة وطنية، وأن الاستثمار في العقل السوري هو الثروة الحقيقية التي يمكن أن تعيد بناء البلد، ليس فقط من الناحية الاقتصادية، بل أيضًا من ناحية موقعه في العالم.