في مشهد سياسي وأمني متشابك، يزداد الحديث في الأوساط السورية عن تمدد خفي لنفوذ ميليشيا “قسد” الاستخباراتي داخل مناطق سيطرة الحكومة السورية، في خروقات تُدار بصمت بعيدًا عن أعين الإعلام، لكنها باتت تؤرق الأجهزة الأمنية وتطرح تساؤلات عميقة حول حجم الاختراق وحدوده.
ففي العاصمة السورية دمشق، العاصمة الأمنية التي تشتهر بقبضتها المحكمة، ألقت الأجهزة الأمنية مؤخرًا القبض على خلية تابعة لاستخبارات ميليشيا “قسد” تضم أربعة أشخاص، من بينهم مسؤول بارز يُدعى جابر، وهو مدير مكتب مرشد التيار المعروف معشوق الخزنوي. إلى جانب “جابر”، تم اعتقال كل من عبد الرحمن فرحان فرحان، عمر علي كدرو، ومحمد نذير جميل عبد الله. هذه الأسماء، بحسب مصادر متقاطعة، كانت تُنسق وتُرسل تقارير أمنية بانتظام إلى قيادات في ميليشيا “قسد”، وتتلقى توجيهات مباشرة من مناطق سيطرتها في الشمال الشرقي.
اللافت أن هذه الخلية ليست حالة معزولة، بل تشير تحقيقات غير معلنة إلى وجود شبكات مماثلة تتحرك بحرية نسبية في مدن أخرى مثل حمص وحماة واللاذقية، مستغلةً علاقات قديمة، أو حتى أوجه تشابه مناطقية وطائفية تسمح لها بالاندماج دون إثارة الشبهات. ويؤكد باحثون في الشأن السوري أن “قسد” عمدت خلال السنوات الماضية إلى تجنيد عناصر سوريين من خلفيات غير كردية، لتسهيل عملها الاستخباري خارج مناطق سيطرتها.
المقلق في هذه التطورات ليس فقط في قدرات هذه الميليشيا على إنشاء خلايا تجسسية، بل في طبيعة الأهداف التي تسعى لتحقيقها، والتي قد تتراوح بين جمع معلومات عن تحركات عسكرية وقيادات أمنية، أو حتى زرع الفوضى والانقسامات ضمن بيئة الحكومة السورية المتهالكة أصلًا أمنيا. البعض يشير إلى احتمالية سعي “قسد” للحصول على أوراق ضغط تفاوضية مستقبلًا، خاصة إذا ما تم طرح ملف التقارب السوري الكردي دوليًا في وقت لاحق.
في المقابل، لم يصدر عن الحكومة السورية سوى بيانات مقتضبة حول هذه الحوادث، تُحيلها إلى “جهود أمنية مستمرة في ملاحقة خلايا تخريبية”، من دون تسمية “قسد” بشكل مباشر. ويرى مراقبون أن هذا التكتّم يعكس الحرج السياسي للحكومة الذي يفضل إبقاء علاقته مع “قسد” في منطقة رمادية، لا هي حرب مفتوحة ولا هي شراكة معلنة، رغم العداء الخطابي المستمر.
تبقى الأسئلة الأهم: ما مدى تغلغل “قسد” فعليًا داخل مناطق الحكومة وما الجهة التي تغض الطرف عن بعض هذه التحركات؟ وهل نحن أمام تطور طبيعي في حرب استخباراتية باتت شاملة، أم أن الأمر يحمل أبعادًا أكثر تعقيدًا ترتبط بإعادة رسم النفوذ داخل سوريا بوسائل غير تقليدية.
ما بين الصمت الرسمي، والتحقيقات الخفية، تبقى الحقيقة غير مكتملة، لكن ما هو مؤكد أن خيوط الاستخبارات ميليشيا “قسد” باتت تمتد اليوم إلى عمق الجغرافيا السورية، في معركة لم تعد تدور بالسلاح وحده، بل بصمت، خلف الكواليس، وعبر العقول.