شهد الشرق السوري خلال السنوات الماضية تحولات كبيرة، نتجت عن تدخلات دولية ومحلية، وصراع نفوذ طويل الأمد بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية (“قسد”). ومع خروج بعض اللاعبين الكرد، يبرز سؤال: هل اقتربت تسوية الشرق السوري؟ في هذا المقال نستعرض خلفية الصراع، المكاسب والخسائر، العقبات أمام التسوية المرتقبة، ودور الأطراف الإقليمية والدولية.
خلفية الصراع وأصول تمركز “قسد”
منذ عام 2012، شهد الشمال والشرق السوري صعوداً لقوى متعددة، وسط تفكّك السلطة المركزية. حاولت الحكومة السورية الاحتفاظ بسلطتها، لكن معظم المناطق الكردية بقيت تحت سيطرة جهات محلية. تأسست “قسد” عام 2015 بانضمام قوات وحدات حماية الشعب إلى تشكيل أوسع تحت دعم تحالف دولي بقيادة واشنطن بمواجهة تنظيم الدولة. هذا النموذج شكّل قطباً موازياً للحكومة، بمؤسسات أمنية ومدنية مستقلة إدارياً، وخلق خطاً فاصلاً في قلب الجغرافية السورية.
اليوم، بات السؤال مطروحاً: هل تسوية الشرق السوري تعني إعادة الدمج الكامل وتوحيد المؤسسات الأمنية والمدنية؟ أم أنها تستهدف نموذجاً معيناً من الحكم اللامركزي ضمن الدولة الموحدة.
مكاسب “قسد” ودور التحالف الدولي
حققت “قسد” مكاسب استراتيجية تمثلت بالسيطرة على موارد ملموسة: ضمنها النفط والغاز والزراعة في الجزء الشرقي. إلى جانب قدرات عسكرية وانضباط نسبي، دعّمها التحالف الدولي، الذي جعل من وجودها أداة للضغط على دمشق، وهو ما فرض على الحكومة إعادة الحسابات في نهجها تجاهها.
إضافة إلى المكاسب الميدانية، أنشأت “قسد” مؤسسات مدنية متكاملة: بلديات وإدارات أمنية، ومحاكم شرعية خاصة، طوّرتها بضرورات الحرب والإدارة. كانت هذه الأدوات رافعة للتسوية، تمهيداً لدور إداري وسياسي ضمن الدولة. ولكن:
- هل قبِل الطرف الحكومي بهذه المؤسسات.
- وهل تؤدي التسوية إلى الأخذ بها بالكامل، أو إدماج جزئي فقط دون نقاش حول شكل الحكم المحلي.
- أو أن تسوية الشرق السوري تشمل إعادة تشكيل هذه المؤسسات ضمن وزارة الداخلية فقط.
ما تقرره الحكومة سيحدد مصير أي تسوية لاحقة، فالتوازنات الحالية تُعد هشة.
إعلان دمشق وخيارات الدمج المحتملة
استعداد الحكومة للدخول في حوار متعلق بالتسوية عُبر عنه في مباحثات رسمية وشبه رسمية، قدمت فيها عروض عدة:
- الدمج الكامل: حلّ المؤسسات الأمنية لـ”قسد”، وتحويل قواتها إلى وحدات تابعة للجيش السوري، مع ضوابط نوعية.
- عروض إقليمية: منح تمثيل سياسي واقتصادي في المحافظات الشرقية، مع حزام سياسي محلي لمناطق الإدارة الذاتية ضمن مؤسسات الجمهورية.
- توطين خاص: دمج القوات محلياً ولكن بمرونة: يسمح لها بالاحتفاظ بزي عسكري موحد، ومشاركة في الجيش المركزي وسلاح الشرطة بدرجات مساواة.
عرض الحكومة “الخيارات” يراعي تجربة العراق مع “الحشد الشعبي”، ولكن ببعد نظامي يهدف لمنع معارضة الغرب وممارسة الضغط الدولي على دمشق لقبول التغييرات.
العقبات السياسية – صراع الهوية والتهمة
في جوهر الأزمة، تقف عوامل سياسية وثقافية تحول دون تسوية الشرق السوري السريعة:
- خوف الحكومة من تفكك الدولة: أي تنازل قد يفتح قطاعاً مجاهاً للتوسع السياسي المستقل، وهو ما ترفضه دمشق التي ترى في ذلك تهديداً للسيادة الكاملة.
- تهمة “الفدرلة” أو الانفصال: تُستخدم من قبل الحكومة ووسائل إعلامها لتشيط الدولة ضد “قسد”، وتشكيل رأي عام موازن للتسوية.
- استعداد “قسد” للقبول بآلية مؤسساتية، لكنها رفضت في السابق عروض الحكومة تجاهل الدور الأمريكي، وتحتاج إلى ضمانات مكتوبة وانتخابات محلية لتفعيل سيطرتها.
هذا التناقض بين الرغبة في ضمان الأمن والاستقرار، والرغبة في سيطرة الدستور المركزي، يجعل تنفيذ أي تسوية الشرق السوري شبه معقدةو بل ربما شبه مستحيل.
دور التحرك الدولي وتركيز واشنطن
أعلنت الولايات المتحدة أنها ليست في عجلة للانسحاب الكامل من سوريا، وإنها تثق بوحدة واستقرار الجيش السوري والحكومة السورية، في إطار مؤشرات على دعم سعياً لتحقيق نموذج تسوية بين الطرفين.
يكمن دور واشنطن في:
- دعم تسوية الشرق السوري لإعادة تنظيم التواجد العسكري داخل إدارة الشرق.
- فرض شروط سياسية من خلال الضغط على دمشق للقبول بالمفاوضات المدروسة.
- الحفاظ على التوازن بين مصالح “قسد” ودمشق، بما لا يتيح لأي طرف فرض توجهاته الأحادية.
وعي واشنطن بضرورة حل الخلاف يؤدي إلى موقف يمهد لتسوية محتملة، تقود عبر إعادة بناء جسر الثقة بين دمشق وقيادات “قسد”.
سيناريوهات متوقعة لمستقبل الشرق
بالنظر إلى المعطيات الراهنة، يمكن رسم عدة سيناريوهات حول تسوية الشرق السوري:
- تسوية كاملة: دمج المؤسسات الأمنية، واستقلال إداري تحت سلطة مركزية واضحة - هذا يتطلب التوافق بين دمشق و”قسد” قبل الانتخابات الإقليمية.
- تسوية جزئية: اصلاح اقتصادي وإداري جزئي تحت إشراف الحكم المحلي لـ”قسد”، مع دمج تدريجي لقواتها المسلحة ضمن جيش موحد.
- تجميد التوتر: تسوية مؤقتة وأمنية تركز على وقف المواجهات، دون حل جذري للنزاع السياسي - وهذا هو السيناريو الأقرب في المرحلة الراهنة.
- تصعيد محدود: اللجوء لخيارات عسكرية من قبل دمشق أو إسرائيل أو قوى محلية، يؤدي لتجميد التسوية، وفتح جبهة جديدة في الشرق.
أفق الواقع وأمل التسوية
رغم وجود خطوة أولى متقدمة من طرفي الصراع، وإن كانت قليلة الأثمان، ما زال تنفيذ تسوية الشرق السوري يواجه تحديات داخلية (صراعات المواقع والأدوار)، وخارجية (ضغط الدور الأمريكي، مخاوف من الاحتلال الإسرائيلي، وتأثيرات إيران وتركيا في المناطق المحاذية).
إذا أرادت دمشق و”قسد” فعلًا تحقيق مصالحة سياسية فاعلة، عليهما وضع الآتي على الطاولة:
- جدول زمني مدروس لضمان دمج مؤسسات “قسد”، يعيد تنسيقها ضمن النظام السوري.
- انتخابات محلية عادلة تحت إشراف دولي، لتأكيد الموافقة الشعبية على عملية الدمج.
- ضمانات قانونية واضحة لحفظ حقوق المجتمعات المحلية، وحماية الحريات ضمن الأطر الدستورية.
- توافق سياسي مصاحب على مشاركة الدول الأوروبية وأمريكا بشكل فني ودبلوماسي لدعم الاستقرار دون تسييس مباشر.
في حالة تفعيل هذه الإجراءات، يمكن القول إن تسوية الشرق السوري لم تعد حلماً بعيداً، بل خطة زمنية قابلة للتحقق ضمن ما تبقى من الدولة السورية الموحدة، التي يمكن أن تُحتذى تجربتها على مدن وبلدات مشابهة ضمن إطار إعادة الاستقرار والسلام.
من الآن، يبقى السؤال المركزي: هل لدى دمشـــــــق وقــــــــــسد فعلاً النية للتشارك الحقيقي في إعادة بناء الدولة، أم أنهم سَيظلون أسير التوجّس، وتجميد الصراع مع احتمال التصعيد في أي لحظة.